التحقيق في نفي التحريف(3)

پدیدآورالسیدعلی المیلانی

تاریخ انتشار1388/09/16

منبع مقاله

share 564 بازدید
التحقيق في نفي التحريف(3)

السيد علي الميلاني
لا مجال لانكار وجود أخبار التحريف في المجاميع الحديثية للشيعة الامامية ، فقد رواها علماء الحديث في كتبهم ، كغيرها من الاخبار الواصلة إليهم بالاسانيد المعتبرة أو غير المعتبرة ، إنما الكلام في قبول تلك الاخبار سندا ودلالة ، وفي جواز نسبة القول بالتحريف إلى رواتها ومخرجيها .
وقد عرفت من قبل أن الرواية أعم من التصحيح والاذعان بالمضمون ، وأن لاكتاب عند الشيعة التزم مؤلفه فيه بالصحة من أوله إلى آخره وتلقت الطائفة أخباره كلها بالقبول ، كما هو الحال عند أهل السنة بالنسبة إلى الكتب التي سموها بالصحاح وبعض الكتب الاخرى ـ كما سيأتي في الباب الثاني ـ .
وعلى ضوء هذه الامور التي ستجد أصدق الشواهد عليها واوضح المصاديق لها قسمنا علماء الشيعة الراوين لاخبارالتحريف إلى:
من يروي هذه الاخبار وهو ينفي التحريف وهم الاكثر .
ومن يرويها وهو يقول بالتحريف أو يجوز نسبة القول به إليه وهم قليلون جدا .
وبين الطائفتين طائفة ثالثة ، يروون هذه الاخبار ولكن لا وجه لنسبة القول بالتحريف إليهم ، وعلى رأسهم الشيخ الكليني إن لم يترجح القول بأنه من الطائفة الاولى .

(الطائفة الاولى)

1 ـ الشيخ أبو جعفر محمد بن على بن بابويه القمي الملقب بالصدوق ، المتوفى سنة 381 هـ.
وقد أجمعت الطائفة على تقدمه وجلالته ، ووصفه الشيخ أبو العباس النجاشي بـ « شيخنا وفقيهنا ، وجه الطائفة بخراسان ، وكان ورد بغداد وسمع منه شيوخ الطائفة وهو حدث السن » (1) وعنونه الشيخ الطوسي قائلا: « كان محمد بن علي بن الحسين حافظا للاحاديث ، بصيرا بالفقه والرجال ، ناقدا اللاخبار ، لم يرفي القميين مثله في حفظه وكثرة علمه » (2) وذكره شيخنا الجد المامقاني ، بقوله: « شيخ من مشايخ الشيعة ، وركن من أركان الشريعة ، رئيس المحدثين ، والصدوق فيما يرويه عن الائمة عليهم السلام » (3).
ولد بدعاء الامام المهدي المنتظر عجل الله فرجه ، كما نص عليه أعلام الطائفة ، « وصدر في حقه من الناحية المقدسة بأنه فقيه خير مبارك ، فعمت بركته ببركة الامام عليه السلام وانتفع به الخاص والعام ، وبقيت آثاره ومصنفاته مدى الايام ، وعم الانتفاع بفقهه وحديثه الفقهاء الاعلام » (4).
رحل في طلب العلم ونشره إلى البلاد القريبة والبعيدة كبلاد خراسان وماوراء النهر والعراق والحجاز ، وألف نحوا من ثلاثمائة كتاب .
إحدى هذه المصنفات كتاب الاعتقادات ، الذي قال فيه بكل وضوح وصراحة: « إعتقادنا في القرآن أنه كلام الله ووحيه وتنزيله وقوله وكتابه ، وأنه لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم عليم . وأنه القصص الحق ، وأنه لقول فصل وما هو بالهزل ، وأن الله تبارك وتعالى محدثه ومنزله وربه حافظه والمتكلم به .
إعتقادنا أن القرآن الذي أنزله الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو ما بين الدفتين ، وهو ما في أيدي الناس ، ليس بأكثر من ذلك ومبلغ ـ سوره عند الناس مائة وأربع عشرة سورة ، وعندنا ان « الضحى » و « ألم نشرح » سورة واحدة ، و « لايلاف » و « ألم تركيف » سورة واحدة » (5) .
يقول رحمه الله: إن القرآن الذي انزله الله تعالى على نبيه ، أي: أن كل ما اوحي إليه بعنوان « القرآن » هو « ما بين الدفتين » لا ان هذا الموجود « ما بين الدفتين » بعضه ، وهو ما في أيدي الناس فما ضاع عنهم شيء منه ، فالقرآن عند الشيعة وسائر « الناس » واحد ، غير أن القرآن الموجود عند المهدي عليه السلام ـ وهو ما كتبه علي عليه السلام ـ يشتمل على علم كثير .
ثم يقول: « ومن نسب إلينا انا نقول أنه أكثر من ذلك فهو كاذب » (6) ، ومنه يظهر أن هذه النسبة « إلينا » أي: إلى الطائفة الشيعة قديمة جدا ، وان ما تلهج به أفواه بعض المعاصرين من الكتاب المأجورين أو القاصرين ليس بجديد ، فهو « كاذب » وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين . إذن ، يحرم نسبة هذا القول إلى « الطائفة » سواء كان الناسب منها أو من غيرها.
ثم قال رحمه الله: « وما روي من ثواب قراءة كل سورة من القرآن ، وثواب من ختم القرآن كله ، وجواز قراءة سورتين في ركعة نافلة ، والنهي عن القرآن بين السورتين في ركعة فريضة ، تصديق لما قلناه في أمر القرآن ، وأن مبلغه ما في أيدي الناس ، وكذلك ما ورد من النهي عن قراءة كله في ليلة واحدة وأن لا يجوز أن يختم في أقل من ثلاثة أيام ، تصديق لما قلناه أيضا بل نقول انه قد نزل الوحي الذي ليس بقرآن ، ما لوجمع إلى القرآن ولكان مبلغة مقدار سبع عشرة ألف آية ، ومثل هذا كثير ، وكله وحي وليس بقرآن ولو كان قرآنا لكان مقرونا به وموصولا إليه غير مفصول عنه ، كما كان أمير المؤمنين جمعه فلما جاء به قال: هذا كتاب ربكم كما انزل على نبيكم لم يزد فيه حرف ولا ينقص منه حرف ، فقالوا: لا حاجة لنا فيه ، عندنا مثل الذي عندك ، فانصرف وهو يقول: « فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به.

ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون » (7) (8).

ومع هذا كله نرى الشيخ الصدوق يروي في بعض كتبه مثل « ثواب الاعمال » ما هو ظاهر في التحريف ، بل يروي في كتابه « من لا يحضره الفقيه » الذي يعد أحد الكتب الحديثية الاربعة التي عليها مدار البحوث في الاوساط العلمية واستنباط الاحكام الشرعية في جمع الاعصار ، وقال في مقدمته: « لم أقصد فيه قصد المصنفين في إيراد جميع ما رووه ، بل قصدت إلى إيراد ما افتي به وأحكم بصحته واعتقد فيه أنه حجة فيما بيني وبين ربي » من ذلك ما لا يقبله ولا يفتي به أحد من الطائفة ، وهو ما رواه عن سليمان بن خالد ، قال: « قلت لابي عبدالله عليه السلام: في القرآن رجم ؟ قال: نعم ، قلت: كيف ؟ قال : الشيخ والشيخة فارجموهما البتة فإنهما قضيا الشهوة »(9).
ورواه الشيخان الكليني والطوسي أيضا عن عبدالله بن سنان بسند صحيح بحسب الاصطلاح ، كما ستعرف .
والخبران يدلان على ثبوت الرجم على الشيخ والشيخة مع عدم الاحصان أيضا ، ولا قائل بذلك مناكما في مباني تكملة المنهاج الذي أجاب عن الخبرين قائلا: « ولاشك في انهما وردا مورد التقية ، فان الاصل في هذاالكلام هو عمر بن الخطاب ، فانه ادعى ان الرجم مذكور في القرآن وقد وردت آية بذلك وقد تعرضنا لذلك في كتابنا (البيان) في البحث حول التحريف وأن القرآن لم يقع فيه تحريف » (10) .
ولهذا ونظائره أعضل الامر على العلماء حتى حكي في المستمسك عن بعض المحققين الكبار أنه قال بعدول الصدوق في أثناء الكتاب عما ذكره في أوله ، واشكل عليه بأنه لو كان كذلك لنوه به من حيث عدل ، وإلا لزم التدليس ولا يليق .
بشأنه ، وللتفصيل في هذا الموضوع مجال آخر .
وكيف كان فان كلام الشيخ الصدوق رحمه الله في « الاعتقادات » مع العلم بروايته لاخبار التحريف في كتبه وحتى في « من لا يحضره الفقيه » لخير مانع من التسرع في نسبة قول أو عقيدة إلى شخصأ وطائفة مطلقا ، بل لابد من التثبت والتحقيق حتى حصول الجزم واليقين .
كما أن موقفه الحازم من القول بالتحريف ونفيه القاطع له ـ مع العلم بما ـ ذكر ـ لخير دليل على صحة ما ذهبنا إليه فيما مهدناه وقدمناه قبل الورد في البحث حول معرفة آراء الرواة لاخبار تحريف القرآن ، وستظهر قيمة تلك الامور الممهدة وثمرتها ـ لا سيما بعد تشييدها بما ذكرناها حول رأي الشيخ الصدوق ـ في البحث حول رأي الطائفة الثالثة وعلى رأسهم الشيخ الكليني .
2 ـ الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي ، المتوفى سنة 460 .
قال عنه العلامة الحلي في « الخلاصة »: « شيخ الامامية ووجههم ، ورئيس الطائقة ، جليل القدر ، عظيم المنزلة ، ثقة ، عين ، صدوق ، عارف بالاخبار والرجال والفقه والاصول والكلام والادب ، وجميع الفضائل تنسب إليه ، صنف في كل فنون الاسلام ، وهو المهذب للعقائد في الاصول والفروع ،الجامع لكمالات النفس في العلم والعمل »(11) وقال السيد بحر العلوم في (رجاله): « شيخ الطائفة المحقة ، ورافع أعلام الشريعة الحقة ، إمام الفرقة بعد الائمة المعصومين عليهم السلام ، وعماد الشيعة الامامية في كل ما يتعلق بالمذهب والدين ، محقق الاصول والفروع ، ومهذب فنون المعقول والمسموع ، شيخ الطائفة على الاطلاق ، ورئيسها الذي تلوى إليه الاعناق ، صنف في جميع علوم الاسلام ، وكان القدوة في ذلك والامام » (12) .
فانه ـ رحمه الله ـ من أكبر أساطين الامامية النافين لتحريف القرآن الشريف حيث يقول: « اما الكلام في زيادته ونقصانه فمما لا يليق به ، لان الزيادة فيه مجمع على بطلانها وأما النقصان منه فالظاهر أيضا من مذهب المسلمين خلافه ، وهو الاليق بالصحيح من مذهبنا ، وهو الذي نصره المرتضى ، وهو الظاهر في الروايات ، غير أنه رويت روايات كثيرة من جهة الخاصة والعامة بنقصان كثير من آي القرآن ونقل شيء منه من موضع إلى موضع ، طريقها الاحاد التي لا توجب علما ، فالاولى الاعراض عنها وترك التشاغل بها(13) .
فالكلام في نقصان القرآن مما لا يليق بالقرآن ، فيجب تنزيهه عنه .
والقول بعدم النقصان هو الاليق بالصحيح من مذهبنا .
وما روي في نقصانه آحاد لا توجب علما ، فالاولى الاعراض عنها وترك التشاغل بها .
وهذه الكلمات تؤكد ما ذكرناه من أن الرواية شيء والاخذ بها شيء آخر ، لان الشيخ الطوسي الذي يقول بأن أخبار النقصان لا توجب علما فالاولى الاعراض عنها وترك التشاغل بها ، ويروي بعضها في كتابه « إختيار معرفة الرجال » (14) بل يروي في تهذيب الاحكام ـ وهو أحد الكتب الاربعة ـ قضية رجم الشيخ والشيخة بسند صحيح (15) .
اما في كتابه « الخلاف » فالظاهر أن استدلاله به من باب الالزام ، لانه بعد أن حكم بوجوب الرجم على الثيب الزانية ـ حكى عن الخوارج انهم قالوا: لا رجم في شرعنا ، لانه ليس في ظاهرالقرآن ولا في السنة المتواترة ، فأجاب بقوله : « دليلنا اجماع الفرقة ، وروي عن عمر أنه قال: لولا أنني اخشى أن يقال زاد عمر في القرآن لكتبت آية الرجم في حاشية المصحف » (16) اذن ، رواية الحديث ونقله لا يعني الاعتماد عليه والقول بمضمونه والالتزام بمدلوله .
3 ـ الشيخ محمد محسن الفيض الكاشاني ، المتوفى سنة 1091 . قال عنه الشيخ الحر العاملي في أمل الامل : « كان فاضلا عالما ماهرا حكيما متكلما محدثا فقيها محققا شاعرا اديبا حسن التصنيف »(17) ووصفه الاردبيلي في جامع الرواة « العلامة المحقق المدقق ، جليل القدر عظيم الشأن ، رفيع المنزلة ، فاضل كامل أديب متبحر في جميع العلوم »(18) وقال المحدث البحراني في لوَلوَة البحرين: « كان فاضلا محدثا إخباريا صلبا » (19) وترجم له الخونساري في روضات الجنات فقال: « وأمره في الفضل والفهم والنبالة في الفروع والاصول والاحاطة بمراتب المعقول والمنقول وكثرة التأليف والتصنيف مع جودة التعبير والترصيف أشهر من أن يخفى في هذه الطائفة على أحدإلى منتهى الابد » (20) .
وقد روى الفيض الكاشاني أحاديث في نقصان القرآن في كتابيه « الصافي في تفسير القرآن » و « الوافي » عن كتب المحدثين المتقدمين كالعياشي والقمي والكليني ، فقال في « الصافي » بعد أن نقل طرف منها: « المستفاد من جميع هذه الاخبار وغيرها من الروايات من طريق أهل البيت عليهم السلام أن القرآن الذي بين اظهرنا ليس بتمامه كما انزل على محمد صلى الله عليه وآله » (21) .
لكن هذا المحدث الاخباري الصلب ـ كما عبر الفقيه الاخباري الشيخ يوسف البحراني ـ لم يأخذ بظواهر تلك الاحاديث ولم يسكت عنها ، بل جعل يؤوَلها في كتابيه ـ كما تقدم نقل بعض كلماته (22)ـ فقال في الوافي في نهاية البحث: « وقد استوفينا الكلام في هذا المعنى وفيما يتعلق بالقرآن في كتابنا الموسوم بـ(علم اليقين) فمن أراده فليرجع إليه » (23) .
وفي هذا الكتاب ذكرأن المستفاد من كثير من الروايات أن القرآن بين أظهرنا ليس بتمامه كما انزل ، ثم ذكر كلام الشيخ علي بن إبراهيم ، وروايتي الكليني عن ابن أبي نصر وسالم بن سلمة ، ثم قال: « أقول: يرد على هذا كله إشكال وهو أنه على ذلك التقدير لم يبق لنا اعتماد على شيء من القرآن ، إذ على هذا يحتمل كل آية منه أن تكون محرفة ومغيرة ، ويكون على خلاف ما أنزله الله فلم يبق في القرآن لنا حجة أصلا فتنتفي فائدته وفائدة الامر باتباعه والوصية به ، وأيضا قال الله غز وجل: وانه لكتاب عزيز ، وأيضا قال الله عزوجل: إنا نحن نزلنا الذكر وأيضا فقد استفاض عن النبي والائمة حديث عرض الجزء المروي عنهم على كتاب الله » ثم قال: « ويخطر بالبال في دفع هذا الاشكال ـ والعلم عند الله ـ أن مرادهم بالتحريف والتغيير والحذف إنما هو من حيث المعنى دون اللفظ أي: حرفوه وغيروه في تفسيره وتأويله ، أي : حملوه على خلاف ما هو عليه في نفس الامر ، بمعنى قولهم: كذا انزلت ، ان المراد به بذلك لا مايفهمه الناس من ظاهره ، وليس مرادهم انها نزلت كذلك في اللفظ ، فحذف ذلك إخفاء للحق ، واطفاء لنور الله .
ومما يدل على هذا ما رواه في الكافي بإسناده عن أبي جعفر أنه كتب في رسالته إلى سعد الخير: وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرفوا حدوده » ثم أجاب عن الروايتين وقال: « ويزيد ما قلناه تأكيدا ما رواه علي بن إبراهيم في تفسيره بإسناده عن مولانا الصادق قال: ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال لعلي: القرآن خلف فراشي في الصحف والحرير والقراطيس ، فخذوه واجمعوه ولا تضيعوه كما ضيعت اليهود التوراة » ثم ذكر كلام الشيخ الصدوق في « الاعتقادات » بطوله ثم قال: « واما تأويل أهل البيت أكثر الايات القرآنية بفضائلهم ومثالب أعدائهم فلا إشكال فيه ، إذ التأويل لاينافي التفسير ، وإرادة معنى لا تنافي إرادة معنى آخر ، وسبب النزول لا يخصص »(24) ثم استشهد لذلك بخبر في الكافي عن ـ الصادق عليه السلام ، وسنورد محل الحاجة من عبارته كاملة فيما بعد .
4 ـ الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي ، المتوفى في سنة 1104 .
قال الشيخ يوسف البحراني عنه: « كان عالما فاضلا محدثا إخباريا »(25) قال الخونساري « شيخنا الحر العاملي الاخباري ، هو صاحب كتاب وسائل الشيعة، وأحد المحمدين الثلاثة المتأخرين الجامعين لأحاديث هذه الشريعة » (26) وقال المامقاني: « هو من أجلة المحدثين ومتقي الاخباريين (27)».
روى بعض أخبار تحريف القرآن في كتابيه « إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات » و « وسائل الشيعة » عن الكتب الاربعة وغيرها .
لكنه ـ رحمه الله ـ من المحدثين النافين للتحريف بصراحة كما تقدم في الفصل الاول (28).
5 ـ الشيخ محمد باقر المجلسي ، المتوافى سنة 1111 .
قال الحر العاملي عنه « مولانا الجليل محمد باقر بن مولانا محمد تقي المجلسي ، عالم ، فاضل ماهر ، محقق ، مدقق ، علامة ، فهامة ، فقيه ، متكلم ، محدث ، ثقة ثقة ، جامع للمحاسن والفضائل ، جليل القدر ، عظيم الشأن » (29) وقال البحراني: « العلامة الفهامة ، غواص بحار الانوار ،ومستخرج لآلئ الاخبار وكنوز الاثار ، الذي لم يوجد له في عصره ولا قبله ولا بعده قرين في ترويج الدين واحياء شريعة سيد المرسلين ، بالتصنيف والتأليف والامر والنهي وقمع المعتدين والمخالفين ... وكان إماما في وقته في عالم الحديث وسائر العلوم وشيخ الاسلام بدار السلطنة اصفهان » (30).
روى المجلسي في كتابه « بحار الانوار » أحاديث نقصان القرآن الكريم عن الكافي للكليني وغيره ، بل لعله استقصى كافة أحاديث التحريف بمختلف معانيه .
لكنا نعلم بأن كتابه « بحار الانوار » على جلالته وعظمته موسوعة قصد منها جمع الاخبار المروية عن أهل البيت عليهم السلام وحصرها في كتاب واحد ، صونا لها من التشتت والضياع والتبعثر ، ولذا نرى أنه لم يصنع فيه ماصنع في كتابه « مرآة العقول » في شرح كتاب الكافي للكليني ، حيث نظر في الاسانيد والمتون نظرة علمية
تدل على طول باعه وسعة اطلاعه وعظمة شأنه في الفقه والحديث والرجال وغيرها من العلوم .
هذا مضافا إلى انه ـ رحمه الله ـ نص بعد نقل تلك الاخبار على ما تقدم نقله من الاعتقاد بأن القرآن المنزل من عند الله هو مجموع ما بين الدفتين من دون زيادة أو نقصان .

(الطائفة الثانية)

1 ـ واشهر هذه الطائفة هو الشيخ علي بن إبراهيم القمي ، صاحب التفسير المعروف باسمه ، في الحديث والثبت المعتمد في الرواية عند علماء الرجال (31) ومن أعلام القرن الرابع .
فقد جاء في مقدمة التفسير ما هذا لفظه: « وأما ما هو محرف منه فهو قوله: لكن الله يشهد بما أنزل اليك ـ في على ـ أنزله بعلمه والملائكة يشهدون . وقوله: يا أيها الرسول بلغ ما انزل اليك من ربك ـ في علي ـ فان لم تفعل فما بلغت رسالته وقوله: ان الذين كفروا ـ وظلموا آل محمد حقهم ـ لم يكن الله ليغفر لهم .وقوله: ـ وسيعلم الذين ظلموا ـ آل محمد حقهم ـ أي منقلب ينقلبون . وقوله: ولو ترى ـ الذين ظلموا ـ آل محمد حقهم ـ في غمرات الموت ، ومثله كثير نذكره في مواضعه » (32) .
وذكر الشيخ الفيض الكاشاني عبارته في « علم اليقين » ، وعلى هذا الاساس نسب إليه الاعتقاد بالتحريف في « الصافي في تفسير القرآن » لكن هذا يبتنى على أن يكون مراد القمي من « ما هومحرف منه » هو الحذف والاسقاط للفظ ... وأما إذا كان مراده ماذكره الفيض نفسه من « ان مرادهم بالتحريف والتغيير والحذف انما هو من حيث المعنى دون اللفظ أي حرفوه وغيروه في تفسيره وتأويله أي حملوه على خلاف ما هو عليه في نفس الامر » فلا وجه لنسبة القول بالتحريف ـ بمعنى النقصان ـ إلى القمي ، بعد عدم وجود تصريح منه بالاعتقاد بمضامين الاخبار الواردة في تفسيره، والقول بما دلت عليه ظواهرها ، بل يحتمل إرادته هذا المعنى كما يدل عليه ما جاء في رسالة الامام إلى سعد الخير فيما رواه الكليني .
مضافا إلى ان القمي نفسه روى في تفسيره بإسناده عن مولانا الصادق عليه السلام قال: « ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال لعلي عليه السلام: القرآن خلف فراشي في الصحف والحرير والقراطيس ، فخذوه واجمعوه ولا تضيعوه كما ضيعت اليهود التوراة » (33) .
ويؤكد هذا الاحتمال كلام الشيخ الصدوق ، ودعوى الاجماع من بعض الاكابر علىالقول بعدم التحريف.
ثم إن الاخبار الواردة في تفسير القمي ليست كلها للقمي ـ رحمه الله ـ بل جلها لغيره ، فقد ذكر الشيخ آغابزرك الطهراني ، ان القمي اعتمد في تفسيره على خصوص ما رواه عن الصادق عليه السلام ، وكان جله مما رواه عن والده إبراهيم ابن هاشم عن مشايخه البالغين الى الستين رجلا ...
قال: « ولخلو تفسيره هذا عن روايات سائر الائمة عليهم السلام عهد تلميذه الآتي ذكره والراوي لهذا التفسير عنه على إدخال بعض روايات الامام الباقر عليه السلام التي أملاها على أبي الجارود في أثناء التفسير ، وذلك التصرف وقع منه من أوائل سورة آل عمران إلى آخر القرآن »(34).
وهذه جهة اخرى تستوجب النظر في أسانيد الاخبار الواردة فيه لاسيما ما يتعلق منها بالمسائل الاعتقادية المهمة كمسألتنا .
2 ـ السيد نعمة الله التستري الشهير بالمحدث الجزائري ، المترجم له في كتب التراجم والرجال مع الاطراء والثناء .
قال الحر العاملي: « فاضل عالم محقق علامة ، جليل القدر ، مدرس » (35) وقال المحدث البحراني: « كان هذا السيد فاضلامحدثا مدققا واسع الدائرة في الاطلاع على أخبار الامامية وتتبع الاثار المعصومية » (36) وكذا قال غيرهما .
وقد ذهب هذا المحدث إلى القول بنقصان القرآن عملا بالاخبار الظاهرة فيه ، مدعيا تواترها بين العلماء ، وقد تقدم نص كلامه والجواب عنه في فصل (الشبهاب) (37) .
ولا يخفى ان الاساس في هذا الاعتقاد كون الرجل من العلماء الاخباريين ، ولذا استغرب منه المحدث النوري اعتماده على تقسيم الاخبار وتنويعها في شرحه لتهذيب الاحكام ، واذا تمت المناقشة في الاساس إنهدم كل ما بني عليه .
3 ـ الشيخ أحمد بن محمد مهدي النراقي ، المتوفى سنة 1244 ، وهو من كبار الفقهاء الاصوليين ، وله مصنفات وموَلفات كثيرة ، من أشهرها: مناهج الاحكام ـ في الاصول ـ ، ـ ومستند الشيعة ـ في الفقه ـ ، ومعراج السعادة ـ في الاخلاق ـ .
قال الشيخ النراقي بعد ان ذكر أدلة المثبتين والنافين: « والتحقيق: ان النقص واقع في القرآن ، بمعنى انه قد اسقط منه شيء وان لم يعلم موضعه بخصوصه ، لدلالة الاخبار الكثيرة ، والقرائن المذكورة عليه من غير معارض ، واما النقص في خصوص المواضع وان ورد في بعض الاخبار إلا انه لايحصل منها سوى الظن ، فهو مظنون ، واما غير المواضع المنصوصة فلا علم بالنقص فيها ولا ظن ، واما الاحتمال فلا دافع له ولا مانع ، وان كان مرجوحا في بعض المواضع .
واما الزيادة فلا علم بوقوعها بل ولا ظن ، بل يمكن دعوى العلم على عدم زيادة مثل آية أو آيتين فصاعدا ، وأما التغيير والتحريف في بعض الكلمات عمدا أو سهوا فلا يمكن نفيه وان لم يمكن إثباته علما كالاختلاف في الترتيب » (38).
وكأن هذا الذي ذكره وجعله هو التحقيق ، جمع بين مقتضى القواعد الاصولية وبين الاخبار الواردة في المسألة ، لكن ما ورد من الاخبار دالا على وقوع النقص في القرآن من غير تعيين لموضعه بخصوصه قليل جدا وما دل على وقوعه في خصوص المواضع بعد تماميته سندا وجواز الاخذ بظاهره لا يحصل منه سوى الظن كما قال وهو لا يغني من الحق شيئا في مثل مسألتنا وحينئذ لا يبقى إلا الاحتمال وهو مندفع بالادلة المذكورة على نفي التحريف ومع التنزل عنها يدفعه أصالة العدم .
4 ـ السيد عبدالله بن السيد محمد رضا الشبر الحسيني الكاظمي ، المتوفى سنة 1242 ، المترجم له في كتب الرجال بالثناء والاطراء ، قال الشيخ القمي: « الفاضل النبيل والمحدث الجليل ، والفقيه المتبحر الخبير ، العالم الرباني والمشتهر في عصره بالمجلسي الثاني ، صاحب شرح المفاتيح في مجلدات ، وكتاب جامع المعارف والاحكام ـ في الاخبار شبه بحار الانوار ـ وكتب كثيرة في التفسير والحديث والفقه واصول الدين وغيرها » (39) .
وقد ذكرنا هذا السيد في الطائفة الثانية لكلام له جاء في كتاب « مصابيح الانوار » ثم لاحظنا انه في تفسيره يفسر الايات المستدل بها على نفي التحريف بمعنى آخر ، ولم يشر إلى عدم التحريف في بحثه حول القرآن ووجوه إعجازه في كتابه « حق اليقين في معرفة اصول الدين ».
واما نص عبارته في كتابه « مصابيح الانوار » فهي : « الحديث 153: ما رويناه عن ثقة الاسلام في (الكافي) والعياشي في تفسيره بإسنادهما عن أبي جعفر عليه السلام قال: نزل القرآن على أربعة أرباع: ربع فينا ، وربع في عدونا وربع سنن وأمثال ، وربع فرائض وأحكام . وزاد العياشي: ولنا كرائم القرآن .
بيان : هذا الحديث الشريف فيه مخالفة لما اشتهر بين الاصحاب وصرحوا به: من أن الايات التي يستنبط منها الاحكام الشرعية خمسمائة آية تقريبا .
ولما ذهب إليه أكثر القراء (40) من ان سور القرآن بأسرها مائة واربعة عشر سورة ، إلى ان آياته ستة الاف وستمائة وستة وستون آية ، والى ان كلماته سبع وسبعون ألف واربعمائة وثلاثون كلمة ، والى ان حروفه ثلاثمائة ألف واثنان وعشرون ألف وستمائة وسبعون حرفا ، والى ان فتحاته ثلاث وتسعون ألف ومائتان وثلاث واربعون فتحة ، والى ان ضماته أربعون ألف وثمانمائة واربع ضمات ، والى ان كسراته تسع وثلاثون ألفا وخمسمائة وستة وثمانون كسرة ، وإلى ان تشديداته تسعة عشر ألف ومائتان وثلاث وخمسون تشديدة ، والى ان مداته ألف وسبعمائة واحدى وسبعون مدة.
وايضا يخالف ما روياه بإسنادهما عن الاصبغ بن نباتة قال: سمعت أميرالمؤمنين عليه السلام يقول : نزل القرآن أثلاثا: ثلث فينا وفي عدونا ، وثلث سنن وامثال ، وثلث فرائض واحكام.
وما رواه العياشي بإسناده عن خيثمة عن أبي جعفر عليه السلام قال: القرآن نزل أثلاثا: ثلث فينا وفي أحبائنا وثلث في أعدائنا وعدو من كان قبلنا ، وثلث سنن ومثل ، ولو ان الاية إذا نزلت في قوم ثم مات اولئك القوم ماتت الآية لما بقي من القرآن شيء ولكن القرآن يجري أوله على آخره ما دامت السماوات والارض ، ولكل قوم آية يتلونها من خير أوشر » .
ثم قال رحمه الله :« ويمكن رفع التنافي بالنسبة إلى الاول: بان القرآن الذي انزل على النبي صلىالله عليه وآله أكثر مما في أيدينا اليوم وقد اسقط منه شيء كثير ، كما دلت عليه الاخبار المتضافرة التي كادت أن تكون متواترة ، وقد أوضحنا ذلك في كتابنا: منية المحصلين في حقية طريقة المجتهدين .
وبالنسبة إلى الثاني: بأن بناء التقسيم ليس على التسوية الحقيقية ولا على التفريق من جمع الوجوه ، فلا بأس باختلافه بالتثليث والتربيع ولا بزيادة بعض الاقسام على الثلث والربع أو نقص عنهما ، ولا دخول بعضها في بعض ، والله العالم (41) .
5 ـ الشيخ محمد صالح بن أحمد المازندراني .
قال الحر العاملي: « فاضل عالم محقق ، له كتب منها شرح الكافي ، كبير حسن ... » (42) وقال الخونساري:« كان من العلماء المحدثين والعرفاء المقدسين ماهرا في المعقول والمنقول ، جامعا للفروع والاصول »(43).
فانه يستفاد من كلام له في شرح الكافي أخذه بظواهر ما ورد فيه ، وربما ذكر الوجوه والمعاني الاخرى التي ذكرها المحدثون لتلك الاخبار على وجه الاحتمال ، بل رأينا منه أحيانا تكلفا لابقاء بعضها على ظاهره.
قال ـ رحمه الله ـ في شرح حديث الكليني عن أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنظي (44) « وكأن هذا المصحف المدفوع اليه هو الذي جمعه أمير المؤمنين عليه السلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله واخرجه وقال: هذا هو القرآن الذي ـ أنزله سبحانه ،وردة قومه ولم يقبلوه ، وهو الموجود عند المعصوم من ذريته كما دلت عليه الاخبار » .
ثم قال: « وفي هذا الخبر دلالة على وجود مصحف غير هذا المشهور بين الناس ، وعلى وجود التحريف والتغيير والحذف فيما أنزله الله تعالى من القرآن على محمد صلى الله عليه وآله .
ورفعه لا يضر ، لاعتضاده بأخبار اخر من طرقنا ،وهي كثيرة مذكورة في كتاب الروضة وغيره ».
قال ـ وهو يقصد تقوية ذلك بأحاديث أهل السنة ـ: « وقد دلت الاخبار من طرقهم أيضا على وقوع التغيير » (45) .
وفي كلامه مواقع للنظر:
1 ـ قوله: « كأن هذا المصحف المدفوع إليه هوالذي جمعه أمير المؤمنين » إستظهار منه ولا دليل عليه ، وان تم فقد تقدم الكلام على ذلك في فصل الشبهات في القسم السابق من هذا البحث.
2 ـ قوله : « وفي هذا الخبر دلالة » فيه : ان دلالته غير تامة ، كيف والمحدثون أنفسهم يفسرونه بمعان اخر كما تقدم ؟ !
3 ـ قوله : « ورفعه لا يضر » إعتراف منه بان حديث البزنطي هذا مرفوع كما تقدم وعدم إضراره محل بحث وخلاف .
4 ـ قوله : « لاعتضاده بأخبار اخر من طرقنا » فيه أن تلك الاحاديث في الاغلب بين ضعيف ومرسل وشاذ نادر ، وهل يعتضد الحديث المرفوع بالضعيف أو بالنادر ؟ !
5 ـ قوله: « وهي كثيرة » فيه : أنه لو سلم فان الكثرة من هذا القبيل لا تجدي نفعا ، ولا تفيد لاثبات معتقد أوحكم .
6 ـ قوله: « مذكورة في كتاب الروضة وغيره » فيه: أن مما ذكر في كتاب الروضة هو الحديث الذي يفيد عدم نقصان القرآن في ألفاظه بوضوح ، وقد استشهد به المحدث الكاشاني وغيره كما تقدم .
7 ـ قوله: « وقد دلت الاخبار من طرقهم أيضا » فيه: أن تلك الاحاديث ليست حجة قاطعة علينا ، على أن علماء الشيعة يردون أو يؤولون أحاديثهم الدالة على ذلك ، فيكيف بأحاديث أهل السنة ؟ !
وبعد ، فانا نستظهر من كلام الشيخ المازندراني أنه من القائلين بنقصان القرآن ، ولكن حكى السيد شرف الدين والشيخ الاوردبادي ـ رحمهما الله تعالى ـ أنه قال في شرح الكافي: « يظهر القرآن بهذا الترتيب عند ظهور الامام الثاني عشر ويشهر به » فان كان هذا القول له حقا عد في الطائفة الاولى ، والله العالم .
8 ـ الشيخ ميرزا حسين بن محمد تقي النوري الطبرسي ، المتوفى سنة 1320 هـ ، من أعلام القرآن الرابع عشر ، ومن مشاهير محدثي الشيعة الامامية ، توجد ترجمته في كتب الشيخ آغا بزرك الطهراني ، والشيخ عباس القمي وغيرهما من أصحاب التراجم والرجال .
وهو المشتهر بهذا القول في المتأخرين ، وله فيه كتاب « فصل الخطاب » الذي سبب تنديد بعض الجهلة والاعداء بالشيعة والتهويس عليهم ، ذاهلين عن أنه رأي شخصي من هذا المحدث العظيم وليس رأي الطائقة فان أساطين هذه الطائفة في القرون المختلفة يذهبون إلى صيانة القرآن عن كل أشكال التلاعب ، وقد أوردنا طرفا من كلماتهم في الفصل الاول .
ويؤكد ما ذكرناه ـ من أنه رأي شخصي ـ أن علماء الشيعة المعاصرين له والمتأخرين عنه تناولوا كتابه بالرد والنقد ، كالسيد محمد حسين الشهرستاني والشيخ محمود العراقي وغيرهما ، وللشيخ البلاغي بعض الكلام في هذا الباب في مقدمة تفسيره « الآء الرحمن » .

(الطائفة الثالثة)

وهم المحدثون الذين أوردوا في مصنفاتهم جميع ما رووه أو طرفا منه مع عدم الالتزم بالصحة سندا ومتنا ودلالة ، فهم يروون أحاديث نقصان القرآن كما يروون أحيانا أحاديث الغلو والجبر والتفويض والتجسيم ، وما شاكل ذلك ممالا يعتقدون به ولايذهبون إليه ، وقد ذكرنا أن الرواية أعم من الاعتقاد .
وعلى أساس الامور الاربعة التي ذكرناها من قبل ـ مع الالتفات إلى كلام الصدوق ابن بابويه ... وغير ذلك ـ نقول بعدم صحة نسبة القول بالتحريف إلى هذه الطائفة من الرواة فضلا عن نسبته إلى الطائفة استنادا إلى رواية هؤلاء لتلك الاخبار ، مضافا إلى نقاط متعلقة بهم أو باخبارهم سنشير اليها .
ومن هذه الطائفة :
1 ـ الشيخ محمد بن مسعود العياشي ، صاحب التفسير المعروف ، ترجم له الشيخ النجاشي فقال : « ثقة صدوق ، عين من عيون هذه الطائفة ، وكان يروي عن الضعفاء كثيرا ، وكان في أول عمره عامي المذهب ، وسمع حديث العامة فأكثر » (46) وقال الشيخ الطوسي: أكثر أهل المشرق علما وادبا وفضلا وفهما ونبلا في زمانه ، صنف أكثر من مائتي مصنف ، ذكرناها في الفهرست ، وكان له مجلس للخاصي ومجلس للعامي ، رحمه الله » (47) وقال شيخنا الجد المامقاني: « وربما حكي من بعض شراح التهذيب ـ والظاهر أنه المحقق الشيخ محمد نجل الشهيد الثاني ـ أنه قدح في توثيقه بكونه في أول عمره عاميا ، فلا يعلم ان الجرح والتعديل للرجال الذي ينسب اليه هل كان قبل التبصر أو بعده » (48) .
فهو ـ وان كان ثقة في نفسه ـ يروي عن الضعفاء كثيرا ، وأخبار تفسيره مراسيل كما هو معلوم ، ويتلخص عدم صحة نسبة القول بالتحريف اليه ، وعدم جواز الاعتماد على أخبار تفسيره في هذا المضمار .
2 ـ الشيخ محمد بن الحسن بن فروخ الصفار القمي ، الثقة الثبت المعتمد عند جميع علماء الرجال ، ولا حاجة إلى نقل نصوص كلماتهم.
روى هذا الشيخ بعض الاخبار المذكورة سابقا في كتابه « بصائر الدرجات » ولكن لا وجه لنسبة القول بالتحريف إليه ، وقد تكلمنا هناك على تلك الاخبار سندا ومتنا على ضوء كلمات علماء الحديث والرجال ، ومن الضروري النظر في أسانيد أخبار كتابه « بصائر الدرجات » ومعانيها كسائر الكتب الحديثية.
3 ـ الشيخ أبو عمرو محمد بن عمر الكشي صاحب كتاب الرجال .
قال النجاشي « كان ثقة عينا ، روى عن الضعفاء كثيرا ، وصحب العياشي ، وأخذ عنه وتخرج عليه في داره التي كانت مرتعا للشيعة وأهل العلم ، له ـ كتاب الرجال كثير العلم وفيه أغلاط كثيرة » (49) وقال الشيخ أبو علي الرجالي: « ذكر جملة من مشايخنا أن كتاب رجاله المذكور كان جامعا لرواة العامة والخاصة ، خالطا بعضهم ببعض فعمد إليه شيخ الطائفة ـ طاب مضجعه ـ فلخصه وأسقط منه الفضلات » (50) .
وعلى ضوء ما تقدم ليس الشيخ الكشي من القائلين بالتحريف ، ولا يجوز الاستناد إلى الاخبارالواردة في (رجاله) لانه كان يروي عن الضعفاء كثيرا على ما نص عليه النجاشي ، وكان من أصحاب العياشي ، والمتخرجين عليه كما نصوا عليه ، وقد تقدم أن العياشي ـ وان كان ثقة جليلا ـ كان يروي عن الضعفاء كثيرا أيضا ، فلا اعتبار بكل اخبار هذا الكتاب حتى بعد تهذيب الشيخ إياه ، لكون نظره إلى الرجال المذكورين فيه لا الاخبار المروية في غضونه .
4 ـ الشيخ محمد بن إبراهيم النعماني ، الثقة الجليل عند علماء الرجال والجرح والتعديل (51) .
له في كتابه « الغيبة » رواية صريحة في مخالفة القرآن على عهد الامام المهدي عليه السلام للقرآن الموجود الان ، وقد بينا في محله وجه التعارض بين روايته تلك مع روايتين اخريين له ، ... ثم نقلنا حديثا عن « روضة الواعظين » يوضح المراد من تلك الاحاديث الثلاثة .
وذكرنا هناك ان سند ذلك الحديث الصريح غير قوي ، كما بينا في الكلام على (الشبهة الثالثة) أنه لا يمكن الاعتماد على ما ظاهره مخالفة القرآن في عهد الامام المنتظر عجل الله فرجه لهذا القرآن (52) .
والحق أنه لا سبيل إلى نسبة القول بالتحريف اليه ، كلامه في مقدمة كتابه لايدل على إلتزامه بالصحة وان توهم ذلك ، فليراجع .
5 ـ الشيخ أحمد بن علي الطبرسي ، المتوفى سنة 548 صاحب كتاب « الاحتجاج على أهل اللجاج » من مشايخ ابن شهر آشوب ومن أجلاء أصحابنا المتقدمين، عالم فاضل محدث ثقة (53) .
روى في كتابه المذكور ما يفيد التحريف ، ومن ذلك ما رواه في احتجاجات سيدنا أمير المؤمنين عليه السلام مع المهاجرين والانصار المتضمن مخالفة مصحفه الذي جمعه مع المصحف الذي اتخذوه ، وقد أشرنا إلى ذلك في الكلام على (الشبهة الثانية).
وكتاب الاحتجاج وإن كان من الكتب الجليلة إلا أن أكثر أخباره مراسيل كما صرح بذلك الشيخ المجلسي في مقدمة البحار ، والشيخ الطهراني في الذريعة إلى تصانيف الشيعة .
وعلى هذا فلا يصلح ما رواه في هذا الباب للاعتماد ولا دليل على أن ينسب إليه هذا الاعتقاد ، وان جاء في كلام بعض علمائنا الامجاد.
6 ـ السيد هاشم البحراني ، من مشاهير محدثي الامامية وكان على جانب عظيم من الجلالة يضرب به المثل في الورع والتقوى ، وله تصانيف كثيرة منها البرهان في تفسير القرآن ، توفي سنة 1107 هـ (54) .
روى هذا المحدث الجليل في كتابه المذكور طائفة من الاخبار الظاهرة في نقصان القرآن عن العياشي وأمثاله ، لكن تفسيره المذكور يشتمل على أنواع الاخبار وأقسامها ، وكأنه ـ رحمه الله ـ قصد من تصنيفه جمع الروايات الواردة في تفسير الايات ووضع كل حديث في ذيل الاية التي يناسبها ، بل كانت هذه طريقته في جميع كتبه ، فقد قال المحدث البحراني مانصه: « وقد صنف كتبا عديدة تشهد بشدة تتبعه واطلاعه ، إلا اني لم أقف له على كتاب فتاوى في الاحكام الشرعية بالكلية ولا في مسأله جزئية وإنما كتبه مجرد جمع وتأليف ، ولم يتكلم في شيء منها مما وقفت عليه على ترجيح في الاقوال أو بحث أو أختيار مذهب وقول في ذلك المجال ، ولا أدري أن ذلك لقصور درجته عن رتبة النظر ولاستدلال أم تورعا عن ذلك ... » .(55)
« تحقيق حول رأي الكليني »
ان اشهر رواة الاحاديث التي ذكرناها وغيرها واعظمهم هو الشيخ محمد ابن يعقوب الكليني المتوفى سنة 329 روى تلك الاخبار في كتابه « الكافي » الذي هو أهم الكتب الاربعة المشهورة بين الشيعة الامامية .
لقد كان ـ وما زال ـ التحقيق حول رأي الشيخ الكليني في المسألة موضع الاهتمام بين العلماء والكتاب ، لما له ولكتابه من مكانة مرموقة متفق عليها بين الملسمين ، فنسب إليه بعض المحدثين من الشيعة القول بالتحريف إعتمادا على ظاهر كلامه في خطبة كتابه « الكافي » ، ونفى ذلك آخرون وحاول بعض الكتاب القاصرين نسبة القول بذلك إلى الطائفة عامة والتشنيع عليها ـ بزعمه ـ بعد وصف « الكافي » بـ « الصحيح » ، لكنها محاولة يائسة كما سنرى .
لقد تقدم في القسم الثاني من هذا البحث ذكر أهم الاخبار التي رواها الكليني في « الكافي » وبينا ما في كل منها من مواقع النظر أو وجوه الجواب ، بحيث لايبقى مجال للقول بأنها تدل على تحريف القرآن .
والتحقيق حول رأي الكليني وما يتعلق بذلك يتم بالبحث في عدة جهات:

أولاً: في ترجمته وشأن كتابه

لقد ترجم علماء الشيعة للكليني بكل ثناء واطراء وتعظيم وتفخيم ، فقد قال أبو العباس النجاشي: « شيخ أصحابنا في وقته بالري ووجههم ، وكان أوثق الناس في الحديث واثبتهم ، صنف الكتاب الكبير المعروف بالكليني ، يسمى (الكافي) في عشرين سنة » (56) وقال الشيخ الطوسي: « ثقة عارف بالاخبار ، له كتب ، منها كتاب الكافي » (57) وقال إبن شهر آشوب: « عالم بالاخبار ، له كتاب (الكافي) يشتمل على ثلاثين كتابا » (58) وقال المامقاني: « أمر محمد بن يعقوب في العلم والفقه والحديث والثقة والورع وجلالة الشأن وعظيم القدر وعلوَ المنزلة وسمو المرتبة أشهر من أن يحيط به قلم ويستوفيه رقم »(59).
وقال الشيخ بهاء الدين العاملي: « ولجلالة شأنه عده جماعة من علماء العامة كابن الاثير في كتاب جامع الاصول من المجددين لمذهب الامامية على رأس المائة الثالثة ، بعد ما ذكر أن سيدنا وامامنا أبا الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام هوالمجدد لهذا المذهب على رأس المائة الثانية » (60) .
اما كتابه « الكافي » فهو أهم كتب الشيعة الاثني عشرية وأجلها وأعظمها في الاصول والفروع والمعارف الاسلامية واليه يرجع الفقيه في استنباطه للاحكام الشرعية ، وعليه يعتمد المحدث في نقله للاخبار والاحاديث الدينية ، ومنه يأخذ الواعظ في ترهيبه وترغيبه .
الا أنه قد تقرر لدى علماء الطائفة حتى جماعة من كبار الاخباريين لزوم النظر في سند كل خبر يراد الاخذ به في الاصول أو ألفروع ، إذ ليست أخبار الكتب الاربعة ـ واولها الكافي ـ مقطوعة الصدور عن المعصومين بل في أسانيدها رجال ضعفهم علماء الفن ولم يثقوا برواياتهم . ومن هنا قسموا أخبار الكتب إلى الاقسام المعروفة ، واتفقوا علىاعتبار « الصحيح » وذهب أكثرهم إلى حجية « الموثق » ، وتوقف بعضهم في العمل بـ« الحسن » واجمعوا على وجود الاخبار « الضعيفة » في الكتب الاربعة المعروفة ، وقد ذكرنا هذه الحقيقة في الامور الاربعة ببعض التفصيل ، ونزيد تأكيدا هنا بذكر مثالين أحدهما: أن الكليني روى في « الكافي » ان يوم ولادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الاول ـ ولذا نسبت إليه القول بذلك ـ ولم يوافقه أحد من علماء الشيعة عليه فيما نعلم ، بل ذهبوا إلى أنه اليوم السابع عشر منه . والثاني: أن الكليني روى في (الكافي) كتاب (الحسن بن العباس بن حريش) في فضل « إنا أنزلناه في ليلة القدر » وقد ضعف الشيخ أبو العباس النجاشي والشيخ ابن الغضائري وغيرهما الرجل وذموا كتابه المذكور (61) .
وسواء صح ما ذكروا أولم يصح فان الغرض من ذكر هذا المطلب هو التمثيل لما ذكرناه من رأي أكابر العلماء في روايات الكليني .
وعلى الجملة فإنه ليست أخبار « الكافي » كلها بصحيحة عند الشيعة حتى يصح إطلاق عنوان « الصحيح » عليه ، بل فيها الصحيح والضعيف وان كان الصحيح قد لا يعمل به ، « الضعيف » قد يعتمد عليه ، كما هو معلوم عند أهل العلم والتحقيق ... وهذه هي نتيجة البحث في هذه الجهة .

ثانيا: في أنه ملتزم بالصحة اولا

قد ينسب إلى الكليني القول بتحريف القرآن بدعوى اعتقاده بصدور ما رواه عن المعصومين عليهم السلام ، لكن هذه الدعوى غير تامة فالنسبة غير صحيحة ، إذ ان الكليني لم ينص في كتابه على اعتقاده بذلك أصلا ، بل ظاهر كلامه يفيد عدم جزمه به ، واليك نص عبارته حيث قال: « فاعلم يا أخي ارشدك الله أنه لا يسع أحدا تمييز شيء مما اختلف الرواية فيه عن العلماء عليهم السلام برأيه إلا على ما اطلقه العالم عليه السلام بقوله: اعرضوها على كتاب الله فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فردوه . وقوله عليه السلام: دعوا ما وافق القوم ، فان الرشد في خلافهم ، وقوله عليه السلام: خذوا بالمجمع عليه ، فان المجمع عليه لاريب فيه .
ونحن لانعرف من جميع ذلك إلا أقله ، ولا نجد شيئا أحوط ولا أوسع من رد علم ذلك كله إلى العالم عليه السلام ، وقبول ما وسع من الامر فيه بقوله عليه السلام: بأيما أخذتم من باب التسليم وسعكم .
وقد يسر الله وله الحمد تأليف ما سألت ، وارجو أن يكون بحيث توخيت » وأشار بقوله هذا الاخير إلى قوله سابقا :
« وقلت: انك تحب أن يكون عندك كتاب كاف يجمع فيه من جميع فنون علم الدين » (62).
هذا كلامه ـ يرحمه الله ـ وليس فيه ما يفيد ذلك ، لانه لو كان يعتقد بصدور جميع أحاديثه ـ لما أشار في كلامه إلى القاعدة التي قررها أئمة أهل البيت عليهم السلام لعلاج الاحاديث المتعارضة وهي عرض الاحاديث على الكتاب والسنة ، كما أشرنا إلى ذلك من قبل .
واستشهاده ـ رحمه الله ـ بالرواية القائلة بلزوم الاخذ بالمشهور بين الاصحاب عند التعارض دليل واضح على ذلك ، إذ هذا لايجتمع مع الجزم بصدور الطرفين عن النبي صلى الله عليه وآله أو الامام عليه السلام .
وقوله ـ رحمه الله ـ بعد ذلك : « ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلا أقله ، ولا نجد شيئا احوط ولا أوسع من رد علم ذلك كله إلى العالم عليه السلام » ظاهر في عدم جزمه بصدور أحاديث كتابه عن المعصوم عليه السلام .
نعم قد يقال: إن أحاديث « الكافي » إن لم تكن قطعية الصدور فلا أقل من صحتها إسنادا ، ذلك لان مؤلفه قد شهد ـ نتجة بذله غاية ما وسعه من الجهد في التحري والاحتياط ـ بصحة جميع أحاديث كتابه حيث قال في المقدمة: « وقلت: أنك تحب أن يكون عندك كتاب كاف يجمع من جميع فنون علم الدين ما يكتفي به المتعلم ، ويرجع إليه المسترشد ويأخذ منه من يريد علم الدين والعلم به الاثار الصحيحة عن الصادقين عليهم السلام ، والسنن القائمة التي عليها العمل وبها يؤدى فرض الله عزوجل وسنة نبية صلى الله عليه وآله » (63).
فان ظاهر قوله « بالاثار الصحيحة عن الصادقين عليهم السلام » إعتقاده بصحة ما أوروده في كتابه ولكن هذا ـ بغض النظر عما قالوا فيه (64) ـ لايستلزم وثوق الشيخ الكليني بدلالة كل حديث موجود في كتابه حتى ينسب اليه بالقطع واليقين القول بمداليل جميع رواياته ، ويؤكد هذا قوله: « ونحن لانعرف من جميع ذلك » بل ويؤكده أيضا ملاحظة بعض أحاديثه .
توضيح ذلك: أنه ـ رحمه الله ـ روى ـ مثلا ـ أحاديث في كتاب الحج من فروعه تفيد أن الذبيح كان (إسحاق) لا (إسماعيل) ، ومن تلك الاحاديث ما رواه عن أحدهما عليهما السلام: « وحج إبراهيم عليه السلام هو وأهله وولده ، فمن زعم أن الذبيح هو إسحاق فمن هاهنا كان ذبحه » .
قال الكليني: « وذكر عن أبي بصير أنه سمع أبا جعفر وأبا عبدالله (عليهما السلام) يزعما أنه إسحاق . فأما زرارة فزعم أنه إسماعيل (65) .
قال المحدث المجلسي: « وغرضه ـ رحمه الله ـ من هذا الكلام رفع استبعاد عن كون إسحاق ذبيحا ، بأن إسحاق كان بالشام والذي كان بمكه إسماعيل فكون إسحاق ذبيحا مستبعد .
فدفع هذا الاستبعاد بأن هذا الخبر يدل على أن ابراهيم عليه السلام قد حج مع أهله وولده فيمكن أن يكون الامر بذبح إسحاق في هذا الوقت (66) .
وروى ـ رحمه الله ـ في خبر طويل عنأبي جعفر وأبي عبدالله عليهما السلام:
« . . . قال: فلما قضت مناسكها فرقت أن يكون قد نزل في ابنها شيء فكأني أنظر اليها مسرعة في الوادي واضعة يدها على رأسها وهي تقول: رب لا تؤاخذني بما عملت بام إسماعيل .
قال: فلما جاءت سارة فأخبرت الخبر قامت إلى ابنها تنظر فاذا أثر السكين خدوشا في حلقه ، ففزعت واشتكت ، وكان بدء مرضها الذي هلكت فيه » (67) .
قال المحدث الفيض الكاشاني هنا: « يستفاد من الخبر أن الذبيح اسحاق لان سارة كانت ام إسحاق دون إسماعيل ، ولقولها: لا تؤاخذني ... » (68)
. وروى ـ رحمه الله ـ في باب المشيئة والارادة من كتاب التوحيد عن أبي الحسين عليه السلام في حديث قوله: « وامر ابراهيم أن يذبح إسحاق ولم يشأ أن يذبحه ولو شاء لما غلبت مشيئة إبراهيم مشيئة الله تعالى » (69) .
قال السيد الطباطبائي في حاشيته : « وهو خلاف ماتظافرت عليه أخبار الشيعة » .
فهل هذه الاحاديث صحيحة في رأي الشيخ الكليني ؟ واذا كانت صحيحة ـ بمعنى الثقة بالصدور ـ فهل يثق ويعتقد بما دلت عليه من كون الذبيح إسحاق ؟ واذا كان كذلك فماذا يفعل بالاحاديث التي رواها وهي دالة على كونه إسماعيل ؟ وهب أنه من المتوقفين في المقام ـ كما قال المجلسي في نهاية الامر ـ فهل يلتئم هذا مع الالتزام بالصحة في كل الاحاديث ؟
ونتيجة البحث في هذه الجهة: عدم تمامية نسبة القول بالتحريف إلى الكليني إستنادا إلى عبارته في صدر « الكافي »

ثالثا: في إمكان نسبة القول بعدم التحريف إلى الكليني

وبعد ، فان من الجائز نسبة القول بعدم التحريف إلى شيخ الكليني ـ رحمه الله ـ لعدة وجوه:
1 ـ إنه كما روى ما ظاهره التحريف فقد روى مايفيد عدم التحريف بمعنى الاسقاط في الألفاظ ، وهو ما كتبه الامام عليه السلام إلى سعد الخير « وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروف وحروفوا حدوده ، فهم يروونه ولايرعونه ، والجهال يعجبهم حفظهم للرواية ، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية » الحديث وقد استدل به الفيض الكاشاني على أن المراد من أخبار التحريف هو تحريف المعاني دون الالفاظ ، فيكون هذا الخبرقرينة على المراد من تلك الاخبار . ولو فرضنا التعارض كان مقتضى فرض الخبرين المتعارضين على الكتاب ـ عملا بالقاعدة التي ذكرها الكليني ولزوم الاخذ بالمشهور كما ذكر أيضا هو القول بعدم وقوع التحريف في القرآن .
2 ـ إن عمدة روايات الكليني الظاهرة في التحريف تنقسم إلى قسمين:
الاول ـ ما يفيد اختلاف قراءة الائمة مع القراءة المشهورة .
الثاني ـ ما ظاهره سقوط أسماء الائمة ونحو ذلك .
أما القسم الاول فخارج عن بحثنا . وأما القسم الثاني ـ فمع غض النظر عن ـ الاسانيد فكله تأويل من أهل البيت عليهم السلام ، والتأويل لا ينافي التفسير ، وإرادة معنى لا تضاد إرادة معنى آخر وقد روى الكليني ما هو صريح في هذا الباب عن الصادق عليه السلام في قول الله عزوجل: الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل .« انها نزلت في رحم آل محمد . وقد يكون في قرابتك ـ ثم قال ـ ولاتكونن ممن يقول الشيء أنه في شيء واحد »
ومقتضى القواعد التي ذكرها الكليني أن لا يؤخذ بظواهر الاخبار من القسم الثاني .
3 ـ إن كلمات الاعلام والائمة العظام من الشيعة الامامية كالصدوق والمفيد والمرتضى والطبرسي الصريحة في أن المذهب هو عدم التحريف وأن القائلين بالتحريف شذاذ من « الحشوية » تقتضي أن لا يكون الكليني قائلا بالتحريف ، لا سيما كلام الصدوق الصريح في « أن من نسب الينا ... فهو كاذب » وإلا لم يقولوا كذلك إذا لم ينسوا شأن الكليني وعظمته في الطائفة .
4 ـ إن دعوى الاجماع من جماعة من أعلام الطائفة كالشيخ جعفر كاشف الغطاء وغيره ترجح القول بأن الكليني من نفاذة التحريف وإلا لما ادعوه مع الالتفات إلى شخصية الكليني .
5 ـ إن الكليني ـ رحمه الله ـ روى الاخبار المفيدة للتحريف في (باب النوادر) ، ومن المعلوم أن النوادر هي الاحاديث الشاذة التي تترك ولا يعمل بها كما نص على ذلك الشيخ المفيد (70) فجعله تلك الاحاديث في الباب المذكور يدل على تشكيكه بصحتها وطرحه لها .
قال السيد محمد تقي الحكيم: « ولعل روايتها في (النوادر) من كتابه دليل تشكيكه بصدورها ورفضه لها ، وكأنه أشار بذلك لما ورد في المرفوعة من قوله عليه السلام: دع الشاذ النادر » (71) .
وقال السيد حسين مكي العاملي: « ولاجل ماهي عليه من الضعف وندرتها وشذوذها وغرابتها مضمونا جعلها الامام الكليني من الاخبار الشاذة النادرة ، فسطرها تحت عنوان (باب النوادر) . وهذا دليل على أنه خدش في هذه الاخبار وطعن فيها ولم يعتبرها ، اذ لم يغب عن ذهنه وهو من أكابر أئمة الحديث ـ ما هو معنى النادر الشاذ لغة وفي اصطلاح أهل الحديث .
فالحديث الشاذ النادر عندنا ، معشر الامامية الاثني عشرية ، وهو الحديث الذي لا يوخذ به اذا عارضه غيره من الروايات المشهورة بين أهل الحديث أو خالف مضمونا كتابا أو سنة متواترة أو حديثا مشهورا بين أهل الحديث ... . » .
قال: « وأما البحث في حكم النادر الشاذ من الاحاديث فهو: أنه اذا خالف الكتاب والسنة أو كان صحيحا في نفسه ولكنه معارض برواية أشهر بين الرواة لايعمل به ، كما قرره علماؤنا ... .» (72) .

خاتمة الباب الاول

لقد استعرضنا في الباب الاول كل ما يتعلق بـ« الشيعة والتحريف » ، حيث ذكرنا كلمات أعلام الشيعة في نفي التحريف ، وأدلتهم على ما ذهبوا اليه من الكتاب والسنة والاجماع وغيرها . وأجوبتهم عن الروايات الواردة في كتبهم المفيدة بظاهرها لنقصان القرآن وعن الشبهات التي قد تثار حوله على ضوء تلك الرويات .
ولقد لاحظنا أن الروايات الموهمة للتحريف منقسمة إلى ما دل على اختلاف قراءة أهل البيت مع القراء في قراءة بعض الآيات ، وما دل على تاويلات لهم لبعض آخر ، وما دل على سقوط كذا آية من السورة وكذا آية من تلك .
أما القسم الاول فلا ينكر أن الائمة عليهم السلام يختلفون مع القرَاء في قراءة كثير من الايات والكلمات ، غير أنهم أمروا شيعتهم بأن يقرأوا كما يقرأ الناس ، وهذا القسم خارج عن بحثنا.
وأما القسم الثاني فأنه راجع إلى التأويل ولا ريب في أن أهل البيت عليهم السلام أدرى بحقائق القرآن ومعاني آياتة من كل أحد .والادلة على ذلك لا تحصى ، وقد روي عن أبي الطفيل أنه قال: « شهدت عليا يقول: سلوني ، والله لا تسألوني إلا اخبرتكم ، سلوني عن كتاب الله ، فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم بليل نزلت أم بنهار ، أم في سهل أم في جبل »(73) .
وعن ابن سعد: « سمعت عليا يقول: والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيما نزلت واين نزلت وعلى من نزلت ، ان ربي وهب لي قلباً عقولاً ولساناً ناطقاً »(74) .
ولذا رووا عن ابن مسعود انه قال: « ما من حرف إلا وله ظهر وبطن ، وان عليا عنده من الظاهر والباطن » (75) .
وروى ابن المغازلي: أن الذي عنده علم الكتاب هو علي بن ابي طالب عليه السلام (76) .
ومتى وردت رواية معتبرة تحكي تاويلا أو تفسيرا عنهم لآية وجب الأخذ بها امتثالاً لامر النبي صلى الله عليه وآله في الاحاديث المتواترة بين المسلمين بالرجوع اليهم والانقياد لهم والاخذ عنهم والتعلم منهم .
وأما القسم الثالث فان ما تم منه سندا نادر جدا ، على ان أهل السنة يشاركون الشيعة في نقل مثل هذه الروايات كما سنرى .
ومن هنا لاحظنا أن أكثر من 90 % من علماء الشيعة ـ الذين عليهم الاعتماد واليهم الاستناد في اصولهم وفروعهم ـ ينفون النقصان عن القرآن نفيا قاطعا ولم يقل بنقصانه إلا حوالي الـ 5 % منهم ... وهي أراء شخصية لا تمثل رأي الطائفة .
وتلخص أن مذهب الشيعة عدم تحريف القرآن بمعنىالنقيصة في ألفاظه ، وقد اعترف بذلك عبدالعزيز الدهلوي (77) ورحمة الله الهندي (78) وغيرهما من أعلام أهل السنة ، وهذا هو الذي ينسب إلىأئمتنا عليهم السلام وعلى رأسهم أميرالمؤمنين الذي قال: « انا لم نحكم الرجال وانما حكمنا القرآن ، وهذا القرآن انما هو خط مسطور بين الدفتين ، لا ينطق بلسان ولا بدَ له من ترجمان » .
فلننظر ما هو رأي غيره عليه السلام من الصحابة ، وما رأي شيعتهم المنعكس في صحاحهم ومسانيدهم وكتبهم المعتبرة ، في الباب الثاني ..
للبحث صلة . .

پاورقيها:

(1) رجال النجاشي .
(2) فهرست الطوسي .
(3) تنقيح المقال 3: 154 .
(4) تنقيح المقال 3: 154 .
(5) الاعتقادات ـ مخطوط وملحق بكتاب النافع يوم الحشر للمقداد السيوري ـ 92 .
(6) الاعتقادات: 93 .
(7) سورة آل عمران : 187 .
(8) الاعتقادات: 93 .
(10) مباني تكملة المنهاج 1: 196 ، سيأتي البحث حول هذه الاية المزعومة في الباب الثاني (السنة والتحريف) بالتفصيل فانتظر .
(11) خلاصة الاقوال في معرفة أحوال الرجال .
(12) الفوائد الرجالية
(13) التبيان في تفسير القرآن للشيخ الطوسي .
(14) انظر: الفائدة الثامنة من الفوائد المذكورة في خاتمة الجزء الثالث من تنقيح المقال في علم الرجال ، لمعرفة أن الكتاب المعروف برجال الكشي الموجود الان هو للشيخ الطوسي .
(15) التهذيب 10: 3
(16) الخلاف 2: 438
(17) أمل الامل .
(18) جامع الرواة 2 .
(19) لؤلؤة البحرين .
(20) روضات الجنات 5 .
(21) الصافي في تفسير القرآن .
(22) راجع القسم الاول من البحث في نشرة « تراثنا » العدد 6 ص 135 .
(23) الوافي .
(24) علم اليقين 1: 562 ـ 569 .
(25) لؤلؤة البحرين .
(26) روضات الجنات 6 .
(27) تنقيح المقال 3
(28) راجع القسم الاول من البحث في نشرة « تراثنا » العدد 6 ص 136 .
(29) أمل الامل .
(30) لؤلؤة البحرين .
(31) انظر ترجمته في تنقيح المقال 2: 260 .
(32) تفسير القمي 1: 10 .
(33) تفسير القمي 2 .
(34) الذريعة 4: 303 .
(35) أمل الامل 2: 336 .
(36) لؤلؤة البحرين: 111 .
(37) راجع القسم الثاني من البحث في نشرة « تراثنا » العدد 7 ـ 8 .
(38) مناهج الاحكام .
(39) الكنى والالقاب 2: 323 .
(40) وكذا جاء أيضا في « الوافي » و « مرآة العقول » نقلاه عن « المحيط الاعظم في تفسير القرآن » للسيد ـ حيدر الاملي ، من علماء القرن الثامن ، عن أكثر القراء .
(41) مصابيح الانوار في حل مشكلات الاخبار 2: 294 ـ 295
(42) أمل الامل 2 : 276 .
(43) روضات الجنات .
(44) الكافي 2 : 461 ، ونص الحديث : عن البزنطي ، قال : دفع إلي أبو الحسن ـ عليه السلام ـ مصحفا وقال : لا تنظر فيه ، ففتحته وقرأت فيه : « لم يكن الذين كفروا » فوجدت فيها اسم سبعين رجلا من قريش بأسمائهم وأسماء آباوئهم ، قال: فبعث إلي : ابعث إلي بالمصحف .
(45) شرح الكافي 11 : 71 ـ 72 .
(46) رجال النجاشي .
(47) رجال الشيخ الطوسي .
(48) تنقيح المقال .
(49) رجال النجاشي .
(50) رجال أبي علي .
(51) تنقيح المقال.
(52) انظر: معالم العلماء : أمل الامل 2: ، روضات الجنات ، تنقيح المقال ، لكنى والالقاب .
(53) راجع القسم الثاني من البحث في نشرة « تراثنا » العدد 7 ـ8 .
(54) انظرلؤلؤة البحرين: 63 أمل الامل 2: 341 ، الكنى والالقاب 3: 93 .
(55) لؤلؤة البحرين: 63
(56) رجال النجاشي:
(58) معالم العلماء:
(59) تنقيح المقال:
(60) الوجيزه في علم الدراية .
(61) انظر تنقيح المقال 1: 286
(62) الكافي 1: المقدمة .
(63) الكافي 1 .
(64) مفاتيح الاصول معجم رجال الحديث ، وغيرهما ، وقد جاء في المفاتيح عن المحدث الجزائري تصريحه بأنه ليس في كلام الكليني ما يدل على حكمه بصحة أحاديث كتابه .
(65) الكافي 4: 205 ـ 206 .
(66) مرآة العقول 3: 256 ، بحار الانوار 12: 135 .
(67) الكافي 4: 208 ـ 209 .
(69) الكافي 1: 151 .
(71) الاصول العامة للفقة المقارن: 110 .
(72) عقيدة الشيعة
(73) طبقات ابن سعد 2: 238، الاصابة 4 | 503 ، المستدرك 2: 466 الصواعق 1: 127 ، كنزالعمال 6: 405 ، فيض القدير 3: 46 ، الرياض النضرة 2: 188 .
(74) طبقات إبن سعد2 : 238 ، كنز العمال 6: 396 ، الصواعق: 12 .
(75) حلية الاولياء 1: 65 .
(76) المناقب: 314 .
(77) التحفة الاثنا عشرية: 139 .
(78) إظهار الحق 2: 89 .

مقالات مشابه

نقد و بررسي روايتي در تحديد قرآن به سه بخش

نام نشریهحسنا

نام نویسندهمحدثه ایمانی

نقد كتاب مقدس: خاستگاه تاريخي ـ معرفتي و تأثير آن بر مطالعات قرآني

نام نشریهمعرفت ادیان

نام نویسندهجعفر نکونام, نفیسه امیری دوماری

تعارض اختلاف قرائات و عدم تحریف قرآن

نام نشریهمطالعات قرآنی

نام نویسندهسیدمرتضی پور ایوانی